من "فيض الخاطر" - القراءة: ولع أم ضرورة؟

تمهيد:
يقرأ أحدنا إما ضرورة وإما ولعا. فأما القراءة للضرورة فهذا لاستقاء المعلومات من اجل انجاز عمل ما أو للمشاركة في مسابقة ثقافية و/أو علمية وينتهي الأمر عند انتفاء الحاجة الآنية....وأما القراءة ولعا فهي الرغبة في القراءة والحاجة إليها كالحاجة إلى الهواء والماء والغذاء و كالحاجة إلى العبادة لتسمو الروح وينتعش العقل الذي بدون توافرها والولوج إلى أعماق المفردات من خلالها يغرق في وحل التراب والبهيمية.
إن عشقي اللامحدود للقراءة مذ وعيت بهذا الوجود، لم يكن ليمر عبر سني حياتي دونما التحايل على ما تفرضه الحياة اليومية من واجبات تتطلب سعة من الوقت قد لا تكفي لاستراق نظرة الى سطر من كتاب....اما عاشق القراءة ودون تحديد لمجال ينحاز إليه في القراءة دون غيره تجده يسرق من الوقت - لاجل هذا الهوى – سرقة ولو سئل عما يتمناه لقال دون طول تفكير: أريد عمرا ثانيا لأقرأ المزيد.....
لم نقرأ بالضبط؟ وما السر في تغلغل هوى القراءة عند البعض؟
فهل من مجيب قبل ردي بما يجول في خلدي حول هذا؟
                                                                                   
                                                                                        
      
من فيض الخاطر
كتاب من جزأين للأديب أحمد أمين. يتضمن مجموعة مقالات من قرأها لا يملك بعدها إلا أن يمر من صفحة إلى أخرى دونما شعور بالملل......يعالج أحمد أمين من خلال مقالاته هذه كل ما يمر أمام ناظريه من مجريات الحياة ووقائعها؛ الملموس منه والمحسوس......قرأته وأنا في بداية مشواري الجامعي فكان في مضمونه مؤدبا لي ومعلما لأن القراءة بالنسبة لي معلم ثالث إلى جانب المعلم الرباني والمعلم الأبوي....
ومن بين المقالات التي شدتني إليها وثلمت في نفسي ثلما مقالة "الصديق".....أرجو أن يشاركني القارئ متعة وجدوى قراءتها، مع غيرها من المقالات التي أضيفها متى ما تمكنت من نقلها من المؤلف المطبوع إلى المدونة...ولكم يسعدني أن تكلل القراءة بتعقيب أو تعليق يثري المعروض من الأفكار..
                                                          "صديق"

لي صديق اصطلحت عليه الأضداد. والتقت فيه المتناقضات. سواء في ذلك خلقه و خلقه وعلمه. حيي خجول. يغشى المجلس فيتعثر في مشيته، ويضطرب في حركته، ويصادف أول مقعد فيرمي بنفسه فيه، ويجلس وقد لف الحياء رأسه، وعض الخجل طرفه، وتقدم له القهوة فترتعش يده، وترتجف أعصابه؛ وقد يداري ذلك فيتظاهر أن ليس له فيها رغبة، ولا به إليها حاجة؛ وقد يشغل لفافته فيحمله خجله أن ينفضها كل حين؛ وهي لا تحترق بهذا القدر كل حين؛ وقد يهرب من هذا كله فيتحدث إلى جليسه لينسى نفسه وخجله، ولكن سرعان ما تعاوده الفكرة فيعاوده الهرب؛ وهكذا دواليك حتى يحين موعد الانصراف، فيخرج كما دخل، ويتنفس الصعداء حامدا الله على أنه لم يخر صعقا، ولم يدركه حينه كربا وقلقا.
من أجل هذا أكره شيء عنده أن يشترك في عزاء أو هناء، أو يدعى إلى وليمة أو يدعو إليها. يشعر أنه عبء ثقيل على الناس وأنهم عبء عليه. يحب العزلة لا كرها للناس ولكن سترا لنفسه. ويأنس بالوحدة وهي تضنيه وتبريه.
ثم هو – مع هذا – جريء إلى الوقاحة، يخطب فلا يهاب، ويتكلم في مسألة علمية فلا ينضب ماؤه، ولا يندى جبينه، ويعرض عليه الأمر في جمع حافل فيدلي برأيه في غير هيبة ولا وجل، وقد تبلغ به الجرأة أن يجرح حسهم ويدمي شعورهم، فلا يأبه لذلك، ويرسل نفسه على سجيتها فلا يتحفظ ولا يتحرز.
يحكم من يراه في حالته الأولى انه أحيا من مخدرة، ومن يراه في الثانية انه أوقح من ذئب وأصلب من صخر، ومن يراه فيهما انه شجاع القلب جبان الوجه.
وهو طموح قنوع، نابه خامل، يرمي بهمته إلى ابعد مرمى، وتنزع نفسه إلى أسمى المراتب، وتحفزه إلى أبعد المدارك؛ فيوفر على ذلك همه،  ويجمع له نعسه، ويتحمل فيه اشق العناء، واكبر البلاء ولا يسام ولا يضجر، وكلما نال منزلة ملها وطلب أسمى منها. وبينا هو في جده وكده، وحزمه وعزمه، غذ طاف به طائف من التصوف؛ فاحتقر الدنيا وشؤونها، والنعيم والبؤس، والشقاء والهناء. وسمع قول المتنبي:
                 ولا تحسبن المجد زقا وقينة***فما المجد إلا السيف والطعنة البكر****
                  وتركك في الدنيا دويا كأنما***تداول سمع المرء أنمله العشر****
فهزئ به وسخر منه، واستوطأ مهاد الخمول ورضي من زمانه مما قسم له. وبينا يأمل أن يكون اشهر من قمر، ومن نار على علم، يسافر في الشرق والغرب ذكره، ويطوي المراحل اسمه، اذ به يخجل يوم ينشر اسمه في صحيفة، ويذوب حين يشار إليه في حفل، ويردد مع الصوفية قولهم: "ادفن وجودك في ارض الخمول، فما نبت مما لا يدفن لا يتم نتاجه. يعجب من يراه مجدا خاملا، ومعرفة نكرة، وعاملا مغمورا.
وأغرب ما فيه أنه متكبر يتجاوز قدره، ويعدو طوره، ومتواضع ينخفض جناحه، وتتضاءل نفسه، يتكبر حيث يصغر الكبراء، ويتصاغر حيث يكبر الصغراء. يناله على العظماء حتى تظن انه نسل الأكاسرة ووارث الجبابرة. ويجلس إلى الفقير المسكين يؤاكله وستذل له: هو نسر أمام الأغنياء، و بغاث لدى الفقراء، لا تلين قناته لكبير، ويخزم انفه الصغير.
يحب الناس جملة، ويكرههم جملة، يدعوه الحب أن يندمج فيهم، ويدعوه الكره أن يفر منهم. حار في أمره فامتزج الحب بالكره، فاستهان بهم في غير احتقار.
صحيح الجسم مريضه، ليس فيه موضع ضعف، ولكن كذلك ليس فيه موضع قوة. يشكو المرض فيحتار في شأنه الطبيب، فيحنق على الأطباء ويرميهم بالعجز، وما العجز إلا جسمه لم يستطع أن ينوء بنفسه.
وكذلك كان رأسه؛ مضطرب، مرتبك، كأنه مخزن مهوش، أو دكان مبعثر، وضعت فيه النعل القديمة بجانب الحجر الكريم، يؤمن بقول الفقهاء: القديم على قدمه، ثم يدعو إلى التجديد. و يتلاقى فيه مذهب أهل السنة بمذهب اهل النشوء والارتقاء، ومذهب الاختيار بمذهب الجبر، وحب الغنى بمذهب "أبي ذر". وتجتمع في مكتبته كتب خطية قديمة قد أكلتها الأرضة، ونسج الزمان عليها خيوطه، وأحدث الكتب الأوربية فكرا وطبعا وتجليدا. ولكل من هذين ظل في عقله، واثر في رأسه. يسره "تأبط شرا" في بداوته وصعلكته، و"جوته" في حضارته وإمارته، ويؤمن بشاعرية هذا وذاك. يسمع الى الملحدين فيصغي إليهم، والى المؤمنين فيحن شوقا لذكراهم. يهمل في صلاته ويحافظ على صومه، أن ألحد فكره لم تطاوعه طبيعته، وان كفر عقله آمن قلبه. زمن أصدقائه السكير الزاهد، والفاجر الداعر والعابد؛ وكلهم على اختلاف مذاهبهم يصفه بأنه يجيد الإصغاء كما يجيد البليغ الكلام.
سرت معه سيرة من جنسه، فأحببته وكرهته، ونقمت منه ورحمته، وكنت آنس به واستوحش منه؛ يبعد عني فأتوق إليه، ويطول مقامي معه فأتبرم به.
وأخيرا، لم يقو جسمه على هذه الأضداد مؤتلفة، والمتناقضات مجتمعة. فعالجه الشيب في شبابه، وتقوس ظهره في ربيع عمره، وأصبح مترهل العضل، منسرق القوى يظنه من رآه أنه بلغ أرذل العمر، ولذاته في رونق الشباب.
بلغني مرضه، فلم أدركه إلا جنازة، فشيعته إلى أن انزل حفرته، واجن في رمسه ونفضت من ترابه الأيادي.
وعدت موجع القلب باكيا، ضيق الصدر، مكروب النفس، أخذني من الحزن عليه ما تنقض منه الجوانح، وتنشق له المرائر؛ فعلمت أن حبي له كان أعمق من كرهي إياه، وأن نقمتي عليه لم تكن إلا مظهرا من عطفي عليه، وأني كنت أقسو عليه رحمة به.
رحمة الله عليه فقد حطم بعضه بعضا، ومضى قتيل روحه وشهيد نفسه.
 تعليق:
 
أشرت في التمهيد لـهذه المقالة و مجموعة "فيض الخاطر" لأحمد أمين، الى أن الكاتب يعرض في مقالاته التي تضمها المجموعة واقع الحياة بملموسها ومحسوسها..وهذا في الأساس ما تحرر من أجله أية مقالة أدبية. وأما مقالات أحمد أمين بالذات، فأجدها عند قراءتها كآلة مصورة من أحدث طراز تلقي بظلال التفكير والتحليل على مشاهد من الحياة اليومية التي لا تزال تتكرر في معظمها في أيامنا هذه ويدعونا من ثم لقراءة المشهد معه.
كان علي التذكير إجمالا برؤيتي حول المجموعة حتى أضع البنان تحديدا على شخصية "صديق" الكاتب باختلاف الاضداد فيها والتناقضات التي أجهدت عقله قبل جسمه. والتي احتار فيها الكاتب وتألم لغياب صديقه بفعل التقائها في شخصه.
هذا الصنف من الشخصيات نادر وجوده ..وان حدث وأنعمت القدرة الإلهية على أحدنا بقربه وصداقته، قد يتبرم بها حينا إن لم يبادله نفس الخصائص والميزات. لكن ..سرعان ما تجده يخشى زوال هذه النعمة المزجاة إذا ما أحسن التعرف عليها والإلمام بجوانبها والربط بين زوايا تناقضاتها.
شخصية كهذه تعرفت عليها وأعجبت بها ما أن تصفحت كتاب "عبقرية عمر" للعقاد......... ولعل في من التناقضات الشبيهة بتناقضات صديق احمد أمين ما لا يدركه إلا من أوتي الفراسة والحكمة والصبر....لذا وجدتني متعلقة بمثلها...

لو أن القارئ، أيضا، يتحفنا بما يكنزه ذهنه من أفكار حول الموضوع بناء على رؤيته الخاصة أو ما تثيره فيه الذاكرة من ذكرى عن قريب او صديق مشابه وتضعه ثانية أمام ناظريه.....